تفسير القرطبي
فهذا يوضح ان حروفاً من القرآن ستر معانيها عن جميع العالم ، اختباراً من الله عز وجل وامتحاناً ، فمن آمن بها أثيب وسعد ، ومن كفر وشك أثم وبعد . حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن ابي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : "الذين يؤمنون بالغيب" . قلت : هذا القول في المتشابه وحكمه ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في ( آل عمران ) إن شاء الله تعالى . وقال جمع من العلماء كبير : بل يجب أن نتكلم فيها ، ونلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة ، فروي عن ابن عباس وعلي ايضاً : أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم ، إلا أنا لانعرف تأليفه منها . وقال قطرب والفراء وغيرهما : هي إشارة الى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم ، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم . قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن ، فلما سمعوا : الم و المص استنكروا هذا اللفظ ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم . وقال قوم : روي ان المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا : "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة . وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها ، كقول ابن عباس وغيره : الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمع لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد . وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله : "الم" قال : أنا الله أعلم ، الر أنا اله أرى ، المص أنا الله أفضل . فالألف تؤدي عن معنى أنا ، واللام تؤدي عن اسم الله ، والميم تؤدي عن معنى أعلم . واختار هذا القول الزجاج وقال : اذهب الى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى ، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقوله : فقلت لها قفي فقالت قاف أراد : قالت وقفت :وقال زهير : بالخير خيرات وإن شرا فا ولا اريد الشر إلا أن تا أراد : وإن شرا فشر . واراد : إلا أن تشاء . وقال آخر : نادوهم ألا الجموا ألاتا قالوا جميعاً كلهم ألافا أراد : ألا تركبون ، قالوا : ألا فاركبوا . وفي الحديث : "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ، كما قال عليه السلام : "كفى بالسيف شا" معناه : شافياً . وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور . وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها ، وهي من أسمائه ، عن ابن عباس ايضاً . ورد بعض العلماء هذا القول فقال : لا يصح أن يكون قسماً لأن القسم معقود على حروف مثل : إن وقد ولقد وما ، ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف ، فلا يجوز أن يكون يميناً . والجواب أن يقال : موضع القسم قوله تعالى : "لا ريب فيه" فلو أن إنساناً حلف فقال : والله هذا الكتاب لا ريب فيه ، لكان الكلام سديداً ، وتكون لا جواب القسم . فثبت ان قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سدي صحيح . فإن قيل : ما الحكمة في القسم من الله تعالى ، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين : مصدق ، ومكذب ، فالمصدق يصدق بغير قسم ، والمكذب لا يصدق مع القسم ؟ . قيل له : القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب إذا أرد بعضهم أن يؤكد كلامه اقسم على كلامه ، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده . وقال بعضهم : الم أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ . وقال قتادة في قوله : الم قال اسم من أسماء القرآن . وروي عن محمد بن علي الترمذي انه قال : إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة ، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي ، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس . وقيل غير هذا من الأقوال ، فالله أعلم . والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا اخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها . واختلف : هل لها محل من الإعراب ؟ فقيل : لا ، لأنها ليست أسماء متمكنة ، ولا أفعالا مضارعة ، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية . هذا مذهب الخليل وسيبويه . ومن قال : إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عند خبر ابتداء مضمرة ، أي هذه الم ، كما تقول : هذه سورة البقرة . أو تكون رفعاً على الابتداء والخبر ذلك ، كما تقول : زيد ذلك الرجل . وقال ابن كيسان النحوي : الم في موضع نصب ، كما تقول : اقرأ الم أو عليك الم . وقيل : في موضع خفض بالقسم ، لقول ابن عباس : إنها قسم الله بها