بسم الله الرحمن الرحيم... قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن إبراهيم قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد العكبري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح قال: أخبرنا حجاج بن محمد قال: أخبرنا ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنـزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}الآية.
نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، وكان جهوريّ الصوت، وكان إذا كلم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم المزكي قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد قال: أخبرنا أبو القاسم البغوي قال أخبرنا قطن بن نسير قال: أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: أخبرنا ثابت عن أنس: لما نـزلت هذه الآية: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال ثابت بن قيس: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبيّ وأنا من أهل النار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (هو من أهل الجنة). رواه مسلم عن قطن بن نسير.
وقال ابن أبي مليكة: كاد الخيِّران أن يهلِكا: أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب من بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس وأشار الآخر برجل آخر، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك وارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنـزل الله تعالى في ذلك: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. وقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية.
قال عطاء عن ابن عباس: لما نـزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} تألّى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، فأنـزل الله تعالى في أبي بكر: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}.
أخبرنا أبو بكر القاضي قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا حصين بن عمر الأحمسي قال: حدثنا مخارق، عن طارق، عن أبي بكر قال: لما نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} قال أبو بكر: فآليت على نفسي أن لا أكلم رسول الله إلا كأخي السرار.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
أخبرنا أحمد بن عبيد الله المخلدي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن زياد الدقاق قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن يحيى العتكي قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: حدثنا داود الطفاوي قال: حدثنا أبو مسلم البجلي قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أتى ناس النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلموا فجعلوا ينادونه وهو في الحجرة: يا محمد، يا محمد. فأنـزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}...
وقال محمد بن إسحاق وغيره: نـزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد، فنادوا النبيّ صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته: أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونـزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وكـان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم.
وكانت قصة هذه المفاخرة على ما أخبرناه أبو إسحاق أحمد بن محمد المقرئ قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن السدوسي قال: حدثني الحسن بن صالح بن هانئ قال: حدثنا الفضل بن محمد المسيب قال: حدثنا قاسم بن أبي شيبة. قال: حدثنا معلى بن عبد الرحمن قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله قال: جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنادوا على الباب: يا محمد، اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فسمعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وهو يقول: (إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين)، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا)...
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض ومن أكثرهم عدة، ومالا وسلاحًا، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس: (قم فأجبه)...
فقام فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به، وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهًا وأعظمهم أحلامًا -فأَجابوه، فالحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا نفسه وماله، ومن أباها قتلناه، وكان رغمه في الله تعالى علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبانهم: قم يا فلان فقل أبياتًا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقام الشاب فقال:
نحــن الكـرام فـلا حـي يعـادلنـا فينـا الـرءوس وفينـا تُقسـم الـربع
ونطعـم النـاس عنـد القحـط كـلهم مـن السـديف إذا لـم يـؤنس القـزع
إذا أبينــا فــلا يــأَبى لنـا أحــــــد إنــا كــذلك عنـد الفخـر نــرتفع
قال: فأَرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان بن ثابت، فانطلق إليه الرسول فقال: وما يريد مني وقـد كنت عنده؟ قـال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فأجابهم وتكلم شاعرهم، فأرسل إليك تجيبه. فجاء حسان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه فقال حسان: يا رسول الله مُره فليسمعني ما قال. فأنشده ما قال، فقال حسان:
نصرنـا رسـولَ اللـه والـدين عنـــــــوة عـلى رغـم بـاد مـن معدٍّ وحاضر
ألسـنا نخوض الموت في حومة الوغى إذا طـاب ورد المـوت بيـن العساكر
ونضــرب هــام الـدارعين وننتمـــــي إلـى حسـب مـن جـذم غسان قاهر
فلــولا حيـاء اللـه قـلنـا تكرّمًـــــــــــــا عـلى الناس بـالخيفين هل من منافر
فأحياؤنـا مـن خير من وطئ الحصى وأمواتنـا مـن خـير أهـل المقـابر
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وقد قلت شعرًا فاسمعه، فقال: هات، فقال:
أتينـاك كيمـا يعـرف النـاس فضلنا إذا فاخرونــا عنــد ذكـر المكـارم
وإنـا رءوس النـاس في كـل معشر وأن ليس فـي أرض الحجـاز كـدارم
وإن لنــا المربـاع في كـل غـارة تكــون بنجــد أو بــأرض التهائم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قم يا حسان فأجبه) . فقام حسان، فقال:
بنــي دارم لا تفخــروا إن فخـركـــم يعــود وبـالا عنــد ذكـر المكـارم
هبلتــم علينــا تفخــرون وأنتــــــــم لنــا خــول مـن بين ظئـر وخـادم
وأفضـل مـا نلتـم مـن المجد والعلى ردافتنــا مـن بعـــد ذكـر الأكـارم
فــإن كـنتم جـئتم لحـقن دمـائكـــــم وأمـوالكم أن تقسـمـوا فـي المقاسـم
فـــلا تجـعلوا للـه نـدًّا وأسلمــــــــوا ولا تفخــروا عنــد النبـيّ بـــدارم
وإلا وربّ البيــت مــالت أكفنـــــــا عـلى هـامكم بالمرهفـات الصــوارم
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إن محمدًا لمؤتى له والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ما يضرك ما كان قبل هذا)، ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله هذه الآية: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله: {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.
نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقًا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع القوم به تلقوه تعظيمًا لله تعالى ولرسوله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حقّ الله تعالى، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنـزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يعني الوليد بن عقبة.
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الشاذياخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكريا الشيباني قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي قال: أخبرنا سعيد بن مسعود قال: أخبرنا محمد بن سابق قال: أخبرنا عيسى بن دينار قال: أخبرنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت في الإسلام وأقررت فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، فقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل لإبّان كذا وكذا لآتيك بما جمعت من الزكاة...
فلمَّا جمع الحارث بن ضرار ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد أن يبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا سروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان وقت لي وقتا ليرسل إليّ ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله...
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق فرجع فقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه فاستقبل البعث وقد فصل من المدينة، فلقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فرجع إليه، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته ولا أتاني...
فلما أن دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟) قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيت رسولك. ولا أتاني ولا أقبلت إلا حين احتبس علي رسولك خشية أن تكون سخطة من الله ورسوله! قال: فنـزلت في الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} إلى قوله تعالى: {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية.
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر النحوي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن سنان المقرئ قال: أخبرنا أحمد بن علي الموصلي قال: أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدِّث عن أنس قال: قلت يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أُبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حمارًا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنـزلت فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} رواه البخاري عن مُسدَّد ورواه مسلم عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية.
نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وذلك أنه كان في أذنيه وقر فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فجاء يومًا وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا، تفسحوا فقال له رجل: قد أصبت مجلسًا فاجلس، فجلس ثابت مغضبًا، فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان؟ فقال ثابت: ابن فلانة؟ وذكر أما كانت له يعير بها في الجاهلية، فنكّس الرجل رأسه استحياء، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}.
نـزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية -وهي ثوب أبيض- وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشـة لحفصة انظري إلى ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب، فهذا كان سخريتها...
وقال أنس: نـزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيّرن أم سلمة بالقصر. وقال عكرمة عن ابن عباس إن صفية بنت حييّ بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء يعيرنني ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا قلت: إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد)، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}.
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المهرجاني قال: أخبرنا أبو عبد الله بن بطة قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم المروزي قال: أخبرنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي جبيرة بن الضحاك عن أبيه وعمومته، قالوا: قدم علينا النبي عليه الصلاة والسلام، فجعل الرجل يدعو الرجل ينبزه، فيقال: يا رسول الله، إنه يكرهه. فنـزلت: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية.
قال ابن عباس: نـزلت في ثابت بن قيس، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من الذاكر فلانة؟) فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: (انظر في وجوه القوم)، فنظر فقال: (ما رأيت يا ثابت؟) فقال: رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال: (فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى)، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذّن على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يُرد الله شيئًا يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئًا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا، فأقرّوا، فأنـزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
أخبرنا أبو حسان المزكي قال: أخبرنا هارون بن محمد الاستراباذي قال: أخبرنا أبو محمد إسحاق بن محمد الخزاعي قال: أخبرنا أبو الوليد الأزرقي قال: حدثني جدي قال: أخبرنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: أخبرنا ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح رقى بلال على ظهر الكعبة فأذن، فقال بعض الناس: يا عباد الله، أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط الله هذا يغيره، فأنـزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}.
وقال يزيد بن شجرة: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ببعض الأسواق بالمدينة وإذا غلام أسود قائم ينادي عليه بياع فيمن يزيد، وكان الغلام يقول: من اشتراني فعلى شرط، قيل: ما هو؟ قال: لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاشتراه رجل على هذا الشرط، وكان يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل صلاة مكتوبة ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: (أين الغلام؟) فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: (قوموا بنا نعوده)، فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيام قال لصاحبه: (ما حال الغلام؟)...
فقال: يا رسول الله إن الغلام لما به، فقام ودخل عليه وهو في برحائه، فقبض على تلك الحال، فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله وتكفينه ودفنه، فدخل على أصحابه من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا فلم ير أحد منا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا فآثر علينا عبدًا حبشيًّا، فأنـزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعني أنكم بنو أب واحد وامرأة واحدة، وأراهم فضل التقوى بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} الآية.
نـزلـت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السّر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنـزل الله تعالى فيهم هذه الآية.